فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

{قل} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي قل يا محمد {يا قوم} أي قل لقومك من كفار قريش {اعملوا على مكانتكم} وقرئ مكاناتكم على الجمع والمكانة تكون مصدرًا يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة كما يقال مقام ومقامة فقوله اعملوا على مكانتكم يحتمل أن يكون معناه اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ويحتمل أن يكون معناه اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها كما يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة: مكانتك يا فلان أي أثبت على ما أنت عليه لا تتغير عنه.
وقال ابن عباس معناه اعملوا على ناحيتكم {إني عامل} يعني إني عامل على مكانتي التي أنا عليها وما أمرني به ربي والمعنى اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة فإني ثابت على الإسلام والمصابرة.
فإن قلت ظاهر الآية يدل على أمر الكفار بالإقامة على ما هم عليه من الكفر وذلك لا يجوز.
قلت: معنى هذا الأمر الوعيد والتهديد والمبالغة في الزجر عما هم عليه من الكفر فكأنه قال أقيموا على ما أنتم عليه من الكفر إن رضيتم لأنفسكم بالعذاب الدائم فهو كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} ففيه تفويض أمر العمل إليهم على سبيل الزجر والتهديد وليس فيه إطلاق لهم في عمل ما أرادوه من الكفر والمعاصي.
وقوله تعالى: {فسوف تعلمون} يعني لمن العاقبة المحمودة لنا أو لكم.
وقيل معناه فسوف تعلمون عند نزول العذاب بكم أينا كان على الحق في عمله نحن أم أنتم {من تكون له عاقبة الدار} يعني فسوف تعلمون غدًا القيامة لمن تكون عاقبة الدار وهي الجنة {إنه لا يفلح الظالمون} قال ابن عباس: معناه أنه لا يسعد من كفر بي وأشرك.
ثم في هذه الآية قولان:
أحدهما: أنهما محكمة وهذا على قول من يقول إن المراد بقوله اعملوا على مكانتكم الوعيد التهديد.
والقول الثاني: أنها منسوخة بآية السيف وهذا على قول من يقول إن المراد بها ترك القتال. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون}
قرأ أبو بكر على مكاناتكم على الجمع حيث وقع فمن جمع قابل جمع المخاطبين بالجمع ومن أفرد فعلى الجنس والمكانة، مصدر مكن فالميم أصلية وبمعنى المكان ويقال: المكان والمكانة مفعل ومفعلة من الكون فالميم زائدة فيحتمل أن يكون المعنى على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، قال معناه الزجاج، ويحتمل أن يكون المعنى على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، يقال: على مكانتك يا فلان إذا أمرته أن يثبت على حاله أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه.
وقال ابن عباس: على ناحيتكم والمعنى ما تنحون أي ما تقصدون من صالح وطالح.
وقال ابن زيد: على حالكم.
وقال يمان: على مذاهبكم.
وقال إسماعيل الضرير: على دينكم في منازلكم لهلاكي خطابًا لكفار مكة {إني عامل} لهلاككم؛ انتهى.
وهي ألفاظ متقاربة وهذا الأمر أمر تهديد ووعيد كقوله: {اعملوا ما شئتم} وهي التخلية والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعمل بخلافه، ومعنى {إني عامل} أي على مكانتي التي أنا عليها.
قال الزمخشري: اثبتوا على كفركم وعداوتكم فيّ فإني ثابت على الاسلام وعلى مصابرتكم؛ انتهى.
والظاهر أن {من} مفعول {تعلمون} وأجازوا أن يكون مبتدأ اسم استفهام وخبره {يوم تكون} والفعل معلق والجملة في موضع المفعول إن كان يعلمون معدّى إلى واحد أو في موضع المفعولين إن كان يتعدّى إلى مفعولين، و{عاقبة الدار} مآلها وما تنتهي إليه والدار يظهر منه أنها دار الآخرة.
قال ابن عطية: ويحتمل أن يراد مآل الدنيا بالنصر والظهور ففي الآية إعلام بغيب.
وقال الزمخشري: العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف في المقال وأدب حسن مع تضمن شدّة الوعيد والوثوق بأن المنذر محق وأن المنذر مبطل.
وقيل: معنى {من تكون له عاقبة الدار} أي من له النصرة في دار الإسلام ومن له الدار الآخرة أي الجنة وفي قوله: {فسوف تعلمون} من التهديد والوعيد ما لا يخفى كقوله: {سنفرغ لكم أيها الثقلان} {من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم} وقال الشاعر:
إذا ما التقينا والتقى الرسل بيننا ** فسوف ترى يا عمر وما الله صانع

وقال آخر:
ستعلم ليلى أي دين تداينت ** وأي غريم للتقاضي غريمها

{إنه لا يفلح الظالمون} أي لا يفوزون قاله الضحاك.
وقال عكرمة: لا يبقون.
وقال عطاء: لا يسعد من كفر نعمتي.
وقيل: لا يأمنون ولا ينجون من العذاب وفيه إشعار بأنهم هم الظالمون الذين لا يفلحون، وفي قوله: {فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار} ترديد بينه عليه السلام وبينهم، ومعلوم أن هذا التهديد والوعيد مختص بهم وأن عاقبة الدار الحسنى هي له عليه السلام ولكنه أجرى مجرى قوله: فشركما لخيركما الفداء.
وقوله:
فأيّي ما وأيك كان شرا ** فسيق إلى المقادة في هوان

وقد علم ما هو شر وما هو خير ولكنه أبرز في صورة الترديد إظهارًا لصورة الإنصاف ورميًا بالكلام على جهة الاشتراك اتكالًا على فهم المعنى.
وقرأ حمزة والكسائي من يكون بالياء على التذكير وكذا في القصص. اهـ.

.قال ابن كثير:

قوله تعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، أي: استمروا على طريقكم وناحيتكم إن كنتم تظنون أنكم على هدى، فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي، كما قال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [هود: 121، 122].
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي: ناحيتكم.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي: أتكون لي أو لكم. وقد أنجز موعده له، صلوات الله عليه، فإنه تعالى مكن له في البلاد، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب، وكذلك اليمن والبحرين، وكل ذلك في حياته. ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته في أيام خلفائه، رضي الله عنهم أجمعين، كما قال الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 20]، وقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 51، 52]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وقال تعالى إخبارًا عن رسله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13، 14]، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} الآية [النور: 55]، وقد فعل الله تعالى ذلك بهذه الأمة، وله الحمد والمنة أولا وآخرًا، باطنًا وظاهرًا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قُلْ يا قوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} إثرَ ما بيّن لهم حالَهم ومآلَهم بطريق الخطاب أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بطريق التلوينِ بأن يواجِهَهم بتشديد التهديد وتكريرِ الوعيد، ويظهر لهم ما هو عليه من غاية النصاب في الدين ونهايةِ الوثوقِ بأمره وعدم المبالاةِ بهم أي اعملوا على غاية تمكّنِكم واستطاعتِكم، يقال: مكُن مكانةً إذا تمكّن أبلغَ التمكّن، أو على جهتكم وحالتِكم التي أنتم عليها، من قولهم: مكانٌ ومكانةٌ كمقامٌ ومقامة، وقرئ مكاناتِكم والمعنى اثبُتوا على كفركم ومعاداتكم {إِنّى عامل} ما أُمرت به من الثبات على الإسلام والاستمرارِ على الأعمال الصالحةِ والمصابرةِ، وإيرادُ التهديد بصيغة الأمرِ مبالغةٌ في الوعيد كأن المهددَ يريد تعذيبَه مجمِعًا عليه فيحمِله بالأمر على ما يؤدي إليه، وتسجيلٌ بأن المهدِّد لا يتأتّى منه إلا الشرُّ كالذي أُمر به بحيث لا يجد إلى التقصّي عنه سبيلًا {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار} سوف لتأكيد مضمون الجملة، والعلمُ عرفانيٌّ و(من) إما استفهاميةٌ معلّقةٌ بفعل العلم محلُّها الرفعُ على الابتداء و(تكون) باسمها وخبرها خبرٌ لها وهي مع خبرها في محل نصبٍ لسدها مسدَّ مفعول تعلمون أي فسوف تعلمون أيُّنا تكون له العاقبةُ الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدارَ لها، وإما موصولةٌ فمحلُّها النصبُ على أنها مفعولٌ لتعلمون أي فسوف تعلمون الذي له عاقبةُ الدارِ، وفيه مع الإنذار إنصافٌ في المقال وتنبيهٌ على كمال وثوقِ المنذِرِ بأمره، وقرئ بالياء لأن تأنيثَ العاقبةِ غيرُ حقيقي {إِنَّهُ} أي الشأنَ {لاَ يُفْلِحُ الظالمون} وُضع الظلمُ موضِعَ الكفرِ إيذانًا بأن امتناعَ الفلاحِ يترتب على أي فردٍ كان من أفراد الظلمِ فما ظنُّك بالكفر الذي هو أعظمُ أفرادِه؟. اهـ.

.قال الألوسي:

{قُلْ يا قَوْمِ} أمر له صلى الله عليه وسلم أن يواجه الكفار بتشديد التهديد وتكرير الوعيد ويظهر لهم ما هو عليه من غاية التصلب في الدين ونهاية الوثوق بأمره وعدم المبالاة بهم أصلًا إثر ما بين لهم حالهم ومآلهم أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار.
{اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} أي على غاية تمكنكم واستطاعتكم على أن المكانة مصدر مكن إذا تمكن أبلغ التمكن؛ وجوز أن يكون ظرفًا بمعنى المكان كالمقام والمقامة، ومن هنا فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه ابن المنذر عنه بالناحية وتجوز به عن ذلك من فسره بالحالة أي اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها.
وقرأ أبو بكر عن عاصم {مكاناتكم} على الجمع في كل القرآن، وزعم الواحدي أن الوجه الإفراد وفيه نظر، والمعنى أثبتوا على كفركم ومعاداتكم لي {مَكَانَتِكُمْ إِنّى عامل} على مكانتي أي ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم.
والأمر للتهديد.
وإيراده بصيغة الأمر كما قال غير واحد مبالغة في الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعًا عازمًا عليه فيحمله بالأمر على ما يؤدي إليه وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن يتفصى عنه.
وجعل العلامة الثاني ذلك من قبيل الاستعارة التمثيلية تشبيهًا لذلك المعنى بالمعنى المأمور به الواجب الذي لابد أن يكون ممن ضربت عليه الشقوة.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار} أي إنكم لتعلمون ذلك لا محالة فسوف لتأكيد مضمون الجملة.
والعلم عرفاني فيتعدى إلى واحد، و(من) استفهامية معلقة لفعل العلم محلها الرفع على الابتداء.
والجملة بعدها خبرها ومجموعهما ساد مسد مفعول العلم.
والمراد بالدار الدنيا لا دار السلام كما قيل، وبالعاقبة العاقبة الحسنى أي عاقبة الخير لأنها الأصل فإنه تعالى جعل الدنيا مزرعة الآخرة وقنطرة المجاز إليها وأراد من عباده أعمال الخير لينالوا حسن الخاتمة.
وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار أي فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها ويجوز أن تكون ما موصولة فمحلها النصب على أنها مفعول {تَعْلَمُونَ} أي فسوف تعلمون الذي له عاقبة الدار، وفيه مع الإنذار المستفاد من التهديد إنصاف في المقال وتنبيه على كمال وثوق المنذر بأمره.
وقرأ حمزة والكسائي {يَكُونَ} بالتحتية لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي.
{إنَّهُ} أي الشأن {لاَ يُفْلِحُ الظالمون} أي لا يظفروا بمطلوبهم، وإنما وضع الظلم موضع الكفر لأنه أعم منه وهو أكثر فائدة لأنه إذا لم يفلح الظالم فكيف الكافر المتصف بأعظم أفراد الظلم. اهـ.